الفكر الإسلامي

 

 

 

امتنان اللّه عز وجل على الناس أجمعين

ببعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم

 

 

 

بقلم :  د. نزار بن عبد الكريم بن سلطان الحمداني

 

     إن الله عز وجل قد امتن على أهل الكتاب اليهود والنصارى ببعثة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وخاطبهم منبها لهم ومنوَّها به - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه:

     ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: 15-16)

     وإذا كان هذا الخطاب الكريم منادى به أهل الكتاب وهم أهل كتاب فمن الأولى أن يكون مخاطباً به غيرهم ممن ليسوا أهل كتاب، ولذلك قال ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين: (يقول الله تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض: عربهم وعجمهم، أمّيِّهم وكتابيِّهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل)(1).

     ثم قال سبحانه وتعالى:

     ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (المائدة:19).

     يقول الله تعالى في هذه الآية الكريمة مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي لانبي بعده ولا رسول، بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال: ﴿عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾ أي بعد مدة متطاولة بين إرساله وعيسى ابن مريم، والفترة: كانت بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق(2)، كما ثبت في صحيح البخاري(3) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

     (أنا أولى الناس بابن مريم(4)، والأنبياء أولاد علات(5)، ليس بيني وبينه نبي)(6).

     والمقصود من الآية الكريمة: أن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير من الأديان وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النمعة به أتم النعم، والحاجة إليه أمرٌ عمم؛ فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين، ولذلك مقت الله الناس إلا بقايا من أهل الكتاب كما ورد في حديث عياض المجاشعي(7) رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ذات يوم فقال في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل(8) مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء(9) كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم(10) عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم(11)، وعربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب(12). وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك(13). وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء(14) تقرؤه نائماً ويقظان)(15).

     فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجّة البيضاء والشريعة الغرَّاء، ولهذا قال تعالى: ﴿أَنْ تُقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَّلاَ نَذِيْرٍ﴾.

     أي لئلا تحتجّوا وتقولوا يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه - : ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير، يعني محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (16).

     وكما خص سبحانه أهل الكتاب في الذكر بالامتنان، كذلك يخص سبحانه المؤمنين ذوي العقول النابهة فيقول:

     ﴿فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقًا﴾ (الطلاق:10-11).

     فيمتنُّ الله عز وجل على عباده المؤمنين الذين احترموا عقولهم وانسانيتهم ببعثة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم(17) ليخرج من آمن به وعمل صالحاً من الظلمات إلى النور بما يتلو عليهم من آيات الذكر الحكيم وبما يبلِّغ من شرائع الله.

الهوامش:

(1)   تفسير ابن كثير: 2/35.

(2) اختلفوا في مقدار هذه الفترة، كم هي، والمشهور: أنها ستمائة سنة، ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة، ولا منافاة بينهما، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية والآخر أراد قمرية، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين، ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِم ثَلاَثَ مائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (الكهف: 25) فقوله تعالى: ﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ أي قمرية لتكميل ثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب. «انظر ابن كثير: 2/37».

(3) كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله : ﴿واذكر في الكتاب مريم﴾. «فتح الباري: 6/477» وفي نفس الباب أيضا بلفظ: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات: أمهاتهم شتى ودينهم واحد).

(4)   أي أخص الناس وأقربهم إليَّ لكونه ممهدًا لقواعد ملتي ومبشرًا بي قبل بعثتي.

(5)   أولاد العلات: الاخوة من الأب وأمهاتهم شتى «الفتح».

(6)   وفي هذا رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان. «ابن كثير».

(7) عياض بن حمار بن محمد بن سفيان التميمي المجاشعي، البصري، صحابي، له ثلاثون حديثا انفرد له مسلم بحديث، روى عنه الحسن ومطرِّف بن الشِّخِّير. «الخلاصة: 301».

(8)   في الكلام حذف، أي قال الله تعالى: كل مال.. الخ، ومعنى نحلته: أعطيته.

(9)   حنفاء: أي مسلمين، أو طاهرين من المعاصي.

(10) اجتالتهم: أي استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه.

(11) المقت: أشدّ البغض، والمراد ما قبل بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

(12) الباقون على التمسك بدينهم الحق، من غير تبديل.

(13) لأبتليك: لأمتحنك بالقيام بواجب الدعوة إلى الله وما يلزمه من جهاد وصبر. وابتلي بك: وامتحن بك من أرسلتك إليهم بطاعتك واتباعك أو بمعاداتك والاعراض عنك.

(14) أي محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الزمان. «الهوامش السابقة من تعليقات محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم: 4/2197. بتصرف».

(15) مسند أحمد: 4/161 و 266. وصحيح مسلم: 4/2197 ج:2865. وتفسير ابن كثير 2/37.

(16) ابن كثير: 2/ 37-38.

(17) وهذا على ما صوّبه ابن جرير من أن «الرسول» تفسير لـ«الذِّكر». بينما يذهب البعض إلى أن «رسولا» منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة، لأن الرسول هو الذي بلّغ الذِّكر. «انظر ابن كثير: 4/410».

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35